فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضًا لغيره، كما في مواطن من الكتاب العزيز، وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب بآيات الله، فإن الظاهر فيه التعريض، ولاسيما بعد تعقيبه بقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم؛ لأنه إذا كان بحيث ينهى عنه من لا يتصوّر صدوره عنه، فكيف بمن يمكن منه ذلك.
قوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قد تقدّم مثله في هذه السورة، والمعنى: أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرّون على الكفر، ويموتون عليه، لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال، وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان، كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب، فهو في حكم العدم: {وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ} من الآيات التكوينية والتنزيلية، فإن ذلك لا ينفعهم، لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم، وحق منه القول عليهم: {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان، وليس بإيمان، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه.
قوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} {لولا} هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا، كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما، ويدل على ذلك ما في مصحف أبيّ وابن مسعود {فهلا قرية}، والمعنى: فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيمانًا معتدًّا به، وذلك بأن يكون خالصًا لله قبل معاينة عذابه، ولم يؤخره كما أخره فرعون، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} منقطع، وهو استثناء من القرى لأن المراد أهلها: والمعنى: لكن قوم يونس: {لَمَّا ءامَنُواْ} إيمانًا معتدًّا به قبل معاينة العذاب، أو عند أوّل المعاينة قبل حلوله بهم: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى} وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع: جماعة من الأئمة منهم: الكسائي، والأخفش، والفراء؛ وقيل: يجوز أن يكون متصلًا، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء، وقرئ بالرفع على البدل.
وقال الزجاج في توجيه الرفع: يكون المعنى: غير قوم يونس، ولكن حملت إلا عليها وتعذر جعل الإعراب عليها، فأعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غيره.
قال ابن جرير: خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب.
وحكى ذلك عن جماعة من المفسرين.
وقال الزجاج: إنه لم يقع العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان، وهذا أولى من قول ابن جرير.
والمراد بعذاب الخزي الذي كشفه الله عنهم، وهو: العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه.
أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} أي: بعد كشف العذاب عنهم، متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم، قدره لهم.
ثم بين سبحانه أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره، فقال: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض كُلُّهُمْ} بحيث لا يخرج عنهم أحد: {جَمِيعًا} مجتمعين على الإيمان، لا يتفرّقون فيه ويختلفون، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفًا للمصلحة التي أرادها الله سبحانه، وانتصاب جميعًا على الحال كما قال سيبويه.
قال الأخفش: جاء بقوله: {جميعًا} بعد: {كلهم} للتأكيد كقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51] ولما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حريصًا على إيمان جميع الناس، أخبره الله بأن ذلك لا يكون؛ لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة، والمصالح الراجحة، لا تقتضي ذلك، فقال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد، ولا داخل تحت قدرتك، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل، الذي لو كان لم يكن صلاحًا محققًا بل يكون إلى الفساد أقرب، ولله الحكمة البالغة.
ثم بين سبحانه ما تقدم بقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: ما صح، وما استقام لنفس من الأنفس أن تؤمن بالله إلا بإذنه: أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته؛ لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائنًا ما كان: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أي: العذاب، أو الكفر، أو الخذلان الذي هو سبب العذاب.
وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل {ونجعل} بالنون.
وفي الرجس لغتان: ضم الراء وكسرها، والمراد بالذين لا يعقلون: هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله، ولا يتفكرون في آياته، ولا يتدبرون فيما نصبه لهم من الأدلة.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن قتادة، في قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إسراءيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ} قال: بوّأهم الله الشام وبيت المقدس.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك قال: منازل صدق مصر والشام.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {فَمَا اختلفوا حتى جَاءهُمُ العلم} قال: العلم: كتاب الله الذي أنزله، وأمره الذي أمرهم به.
وقد ورد في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، وهو في السنن والمسانيد، والكلام فيه يطول.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس، في قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} الآية، قال: لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسأل.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله قال: «لا أشك ولا أسأل» وهو مرسل.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} قال: التوراة والإنجيل الذين أدركوا محمدًا من أهل الكتاب وآمنوا به، يقول: سلهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال: حق عليهم سخط الله بما عصوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ} يقول: فما كانت قرية آمنت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال: لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس، فاستثنى الله قوم يونس.
قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل.
فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة، فلبسوا المسوح وأخرجوا المواشي، وفرّقوا بين كل بهيمة وولدها، فعجوا إلى الله أربعين صباحًا، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم لم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن يونس دعا قومه، فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب.
فقال: إنه يأتيكم يوم كذا وكذا، ثم خرج عنهم، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت، فلما أظلهم العذاب خرجوا، ففرقوا بين المرأة وولدها، وبين السخلة وولدها.
وخرجوا يعجون إلى الله، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم، وصرف عنهم العذاب، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر، فمرّ به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحدّثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وانطلق مغاضبا: يعني مراغمًا.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: غشى قوم يونس العذاب كما يغشى القبر بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دمًا.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، عن ابن عباس، أن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا كشفه الله عنهم.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي الجلد، قال: لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم.
فقالوا له ما ترى؟ قال: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيى الموتى، ويا حيّ لا إله إلا أنت، فقالوا فكشف عنهم العذاب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَيَجْعَلُ الرجس} قال: السخط.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، قال: الرجس: الشيطان، والرجس: العذاب.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)}
قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ}: يجوز في أنت وجهان أحدهما: أن يرتفعَ بفعلٍ مقدرٍ مفسَّرٍ بالظاهر بعده وهو الأرجح؛ لأن الاسمَ قد ولي أداةً هي بالفعل أولى. والثاني: أنه مبتدأ والجملة بعده خبرُه، وقد عُرِف ما في ذلك من ذلك من كون الهمزة مقدمةً على العاطف أو ثَمَّ جملةٌ محذوفة كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاءِ الاسمِ للاستفهام إعلامٌ بأن الإِكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنما الشأنُ في المُكْرِه مَنْ هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشاركه فيه غيرُه. و{حتى} غايةٌ للإِكراه.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ}: كقوله: {أن تموتَ} وقد تقدَّم ذلك في آل عمران.
قوله: {وَيَجْعَلُ} قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة وهو الله تعالى. وقرأ الأعمش فصرَّح به: {ويجعل اللَّهُ الرِّجْزَ} بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى أو بينهما فرقٌ؟. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآيتين:
قال عليه الرحمة:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}
كيف يعتصي عليه سبحانه مرادٌ- والذي يبقي شيءٌ عن مراده ساهٍ أو مغلوبٌ؟ والذي يستحق جلالَ العِزَّةِ لا يفوته مطلوب.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)}
لا يمكن حَمْل الإذن في هذه الآية إلا على معنى المشيئة؛ لأنه للكافة بالإيمان، والذي هو مأمورٌ بالشيء لا يقال إنه غير مأذون فيه. ولا يجوز حملُ هذه الآية على معنى أنه لا يُؤْمِنُ أحدٌ إلا إذا ألجأه الحقُّ إلى الإيمان واضطره- لأنَّ موجِبَ ذلك ألا يكون أحدٌ في العَالَم مؤمنًا بالاختيار، وذلك خطأ، فدلَّ على أنه أراد به إلا أنْ يشاءَ اللَّهُ أنْ يُؤمِنَ هو طوَعًا. ولا يجوز بمقتضى هذا أنه يريد من أحدٍ أن يؤمِن طوعًا ثم لا يؤمِن؛ لأنه يُبْطِلُ فائدةَ الآية، فَصَحَّ قولُ أهل السُّنَّة بأنَّ ما شاءَ اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن. اهـ.

.تفسير الآية رقم (101):

قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقرر ما مضى من النهي عن الإصغاء إليهم في طلب الآيات، وختم بتعليق الأمر بمجرد المشيئة، كان كأنه قيل: فماذا يقال لهم إذا طلبوا؟ فقال: {قل} أي يا أشرف الخلق لهم غير مهتم بأمرهم ومنبهًا لهم على إبطال مذهب الجبر المتعلق أصحابه بنحو هذه الآية، لأن المشيئة مغيبة والعبد مأمور ببذل الجهد في الطاعة بما له من القدرة والاختبار.
ولما أمر بهذا الفكر فكان ربما ظن لأجله أن للإنسان قدرة مستقلة، نبه على مذهب أهل السنة القائل بالكسب الذي هو- كما قال الإمام علي رضي الله عنهم أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض، فقال معلمًا أن من حكم بشقائه لا ينفعه شيء: {انظروا} أي بأبصاركم وبصائركم لتخرجوا بالانتفاع بالعقل عن عداد البهائم؛ قال الإمام: ولو أن الإنسان تفكر في كيفية حكمة الله تعالى في خلق جناح بعوضة لانقطاع فكره قبل أن يصل إلى أول مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد، فلذلك أبهم في قوله: {ماذا} أي الذي: {في السماوات والأرض} أي من الآيات وواضح الدلالات التي أخرجتموها- بإلفكم لها- عن عداد الآيات، وهي عند التأمل من أعظم خوارق العادات، وقال الإمام: فكأنه سبحانه نبه على القاعدة الكليه حتى ينتبه لأقسامها، وقال أبو حيان أخذًا من الإمام: السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان وخصوصًا حال الإنسان- انتهى.
ولما كان ما فيها من الآيات في غايه الدلالة، نبه سبحانه على أن التوقف عن الإيمان بعد التنبيه على كيفية الاستدلال معاندة فقال: {وما} وهي نافية أو استفهامية: {تغني الآيات} أي وإن كانت في غاية الوضوح: {والنذر} أي والإنذارات أو الرسل المنذرون: {عن قوم} أي وإن كانت فيهم قوة: {لا يؤمنون} أي للحكم بشقائهم، فكان ذلك سببًا لتهديدهم بقوله: {فهل ينتظرون}. اهـ.